الطريق الى الكرمك





تبقت أيام قلائل وندلف إلى العام الخامس والتسعين بعد التسعمائة وألف. ونحن على 


أعتاب نهاية المرحلة الثانوية.ليسقط بذلك عاما آخر من أعمارنا،يضاف إلى رصيد 

خبراتنا الغضة، المعجونة بعسل الطفولة وملح الشباب. كانت مدرسة الدمازين الثانوية 

في أبهى حللها.فالدورة المدرسية المقامة بعروس البحر اﻷحمر على اﻷبواب. واﻹعداد 

لذلك اليوم في أوجه؛ مسرح - موسيقى - شعر - قصة - رسم وتلوين - رياضة - كديت 

.
. كنت أشعر وكأنني المعني بكل هذه المناشط، والدفعة حبلى باﻷصدقاء المبدعين.كنا 

كالنحل،فتارة هنا وأخرى هناك، والمدرسة خلية.أعددنا مخزونا استراتيجيا من 

الرحيق..يفي بحاجتنا لخوض المنافسة ويزيد. كنا نتشوق ليوم السفر،فنهش على ما 

تبقى من أيام بعصا اللهفة. وبينما نحن على هذه الحال، إذ برز إلينا أمر آخر،جعل 

العصا تزداد طولا.كان عرضا مغريا حد الإشتهاء،مما جعلني أشعر بلسعات الجنزبيل 

على لساني إثر احتساء قهوة حبشية..أمر غير وجهتي تماما..إلى عميق الصعيد..إلى 

(الكرمك) الحلم. يااااه ! كم كنت أتوق إليها.ولكنها لم تكن سهلة المنال كما هو الحال 

الآن.إذ أن الرصاص كان يعرش سماؤها فيما مضى، وأرضها محشوة بالألغام.مم 

أضطر أهلها لمغادرتها إلى حين.أما اﻵن فاﻷمر يبدو مختلفا، لدرجة أن والدي لم يبد 

اعتراضا على سفري.لم أتردد كثيرا في المفاضلة بين الوجهتين؛فالشمس يوميا تأتي 

من الشرق،ولربما تكف عن الإشراق في الصعيد يوما ما.لذا تقدمت بإعتذار عن 

المشاركة في الدورة الدورة المدرسية ومعي آخرين. فأدوارنا في المسرحية يمكن أن 

يؤديها غيرنا.كانت الدعوة من قبل رابطة طلاب تلكم البلدة الساحرة.محاولة منهم لرد 

بعض الجميل لأمهم،عسى أن يعيدوها سيرتها اﻷولى. هذا وحده كان كافيا ليجعلني 

أنضم إلي صفهم.فكانت مساهمتي تبدأ بتصميم شعار

القافلة، وكتابة قطعة القماش التي ستعلق على (اللوري). مرورا بالمشاركة في إعداد 

البرامج وتزيين جدران مدرستي البلدة وناديها بما تجود علي به قريحتي، انتهاء بالحفل 

الختامي. كان صديقي محمد أحمد والذي حظي بألقاب كثيره منذ نعومة أظافره، منها 

(ود القائد) و(دسك) وكل لقب يحمل بين حروفه قصة..وأخيرا لقب(شعيريه) الذي 

استقرعليه إلى يومنا هذا، أكثر حماسة مني لهذا اﻷمر!، لا لشئ إلا ﻷنه كان مغامرا 

من الطراز اﻷول. وكان يحب ملازمتي، وأنا أكثر حبا منه لذلك. بالرغم من أنه لم يكن 

هنالك سببا واضحا يجعله يرتحل معنا. إلا أنه استطاع أن يقنع جميع أهل بيته(فهو 

الموهوب في ذلك) بضرورة سفره. ومن قبلهم المشرف، و بأن وجوده مهم للغاية في 

هذه الرحلة. ليس هذا فحسب، بل راح يحرض آخرين بالرفقة. كان من بينهم صاحب 

الأنامل الذهبية في الرسم زميلنا (نصر الدين الفيل).والذي كنت قد سألته الرفقة، 

فتعلل.ولكن (شعيرية)استطاع(بفنونه) أن يدغدغه فاستجاب. فقط أرجأ ذلك إلى حين 

موافقة والده. عندها انبرى له شعيرية:
-يا زول أبوك ده، خليهو علي.. أنا بقنعو ليك.


عند الظهيرة كنا نعبر الكبري صوب الروصيرص أو (روسيا ..كما يحلو ﻷهلها 

تسميتها).حيث يقطن صديقنا الفيل وأسرته، آملين ضمان الرفقة. ولم يتبق لنا إلا يوما 

واحدا على الرحلة. وقد حشدنا كل ما يعين على الترحال، ما بقي إلا شيئا واحدا.. 

(نصر الدين الفيل)!.. ولم نكن نعرف موقع المنزل بالضبط. كل ما نعرفه أنه يسكن في 

الحي الجنوبي. لم يكن ذلك مزعجا على اﻹطلاق، فأهل تلك الديار كالجسد الواحد، 

يتعارفون فيما بينهم. وما أن وصلنا إلى الموقف حتى دلنا أول من سألناه، وكان صبيا 

لم يبلغ الحلم بعد..لم تكن الدار قريبة من الموقف، فصعدنا ونزلنا الطرقات كمن يمشي 

على موج البحر، فذلك ما تفرضه طبيعة اﻷرض هناك. أرض تتنافس عليها أشجار 

الجميز والتبلدي الضخمة. ها قد وصلنا،،، شكرنا الصبي وقرعنا الباب،،،، البيت 

مصنوع من القش كما هو حال معظم بيوت الصعيد، تطل منه رؤوس (القطاطي) في 

تحد لمناخ تلك المنطقة. فتجدها بارده في الصيف، دافئة في الشتاء، معتدلة في الخريف. 

فالجزء الأسفل منها مبني بالطين. أما الجزء العلوي مصنوع من القش و (القنا) وهو 

مخروطي الشكل؛ مما يجعلها كشلال (السبلوقة)في الخريف. ويساعد هذا الشكل في 

تبريد الغرفة من الداخل... فتح الباب.. واستقبلنا صديقنا الفيل بحفاوة.وولجنا إلى داخل 

قطية، أبرد من جوف الثلاجة، أنستنا رهق المشوار.. كان رب الدار ما يزال في عمله، 

فجلسنا نتجاذب أطراف الحديث.. وكدت أغفو لولا وصول والد نصر الدين، فنهضنا 

مصافحين. مد إلينا يدا تنافس جو القطية، ووجها أبنوسيا ذا تضاريس صلبة. وعلى 

الفور تسرب إلى إحساسا بأن كرتونة من ال (الشعيرية) لا يمكن أن تفلح في إرضاء 

هذا الرجل!. جلس إلينا صامتا، يعد علينا اﻷنفاس. وابنه مطرقا برأسه يعد حبات الرمل.

ربما طبيعة عمله هي التي أكسبته هذا السلوك. أو لربما كان الأمر متعلق بأعمارنا، 

فنحن في نظره مجرد أطفال. لقد هممت أن أومئ لصديقي باﻹنصراف وترك هذا 

اﻷمر تماما، غير أنه لم يكن حاضرا معي، كان بصره مسلط على الفيل، ولعله كان 

يجري فحصا متعمقا ليرى أي نوع من البشر هو..وظننته قد توصل إلى نتيجة ما، 

فهاهو يكسر باب الصمت معرفا:

-طبعا نحن زملان نصرالدين في المدرسة


و،،،قبل أن يكمل جملته، جاءتنا قذيفه:


- إن شاء الله تكونوا بتذاكروا..ما زي صاحبكم الجنو رسم ده! كأنه كان يعرف ما 

يعتمر برؤوسنا،،،يا للحظ !..أصبت بخيبة كبيرة..اعتدل شعيرية في جلسته وتنحنح.. 

بدل ملامح وجهه وكساه بجديه ما. وبدأ حديثه وكأنه مدير المدرسة،وأخذ يتخير 

الكلمات بدقه، فعرفت أن صديقي قد بدأ في نسج شراكه وإبراز مواهبه الآسرة. 

فاستأذنت مغادرا إلى الحمام، يرشدني إليه نصر الدين، لا لشئ إلا ﻷخلي لهما الحلبة. 

على كل، تركتهما بالداخل، وصديقي سيد الموقف ولا أدري إن كان يستطيع أن يكسب 

هذه الجولة أم لا،، بالقرب من الحمام كانت هنالك شجرة ليمون.وقفت بجانبها وفي يدي 

ليمونتان أبدلهما في الهواء بطريقة لاعبي السيرك. فتسقط واحدة،،،أسمع على إثرها 

قهقهات مشتركة تصدر من القطية، فهرعت إلى حيث الضحكات وأنا أحدث نفسي؛ 

أيعقل أن يكون صاحبي قد أنجز مهمته !..أبهذه السرعة؟!استطاع شعيرية أن يجد 

المفتاح المناسب لذلك القفل.إذا كان اﻷمر كذلك، فلا بد من أنه قد أفهمه أن جميع 

طلاب ومعلمي المدرسة سيذهبون في تلك الرحلة،بل المدرسة بمبانيها سترتحل معنا 

!!.حتى يرضخ له.دخلت عليهم فوجدت ثلاثتهم وقوفا، والفيل ممسكا بشعيرية من 

معصمه ..-والله ما ممكن تمشوا في وكت زي دا..لازم تتغدوا معانا.

ذهب نصر الدين لإحضار الطعام،،،وعلى المائدة لم يكن الحديث عن المدرسة 

واﻹمتحاناتولا عن الكتب والكراسات،بل عن الكرمك والرحلات،،،،وهنا..كان الفيل 

نفسه هو سيد الموقف!! ما هذا ؟ كيف استطاع هذا ال (الشعيرية) أن يبدل حال هذا 

الرجل؟ ،،،،.ها نحن على عتبة الباب مودعين، بعد أن احتسينا الشاي. والفيل يسأل:

-ايوااااا..يعني الرحلة دي عاملاها المدرسة؟.. وهي رحلة علمية؟..مدتها اسبوع 

وااااحد؟..والمدرسة بتكون مؤجزة؟.. يعني مافي دراسة ،،، مش كده؟ 

خلاص خلوا بالكم علي نفسكم.

بدأ الطلاب يتوافدون إلى المدرسة منذ الصباح الباكر. بالرغم من أن اليوم هو الجمعة، 

إلا أن المدرسة كانت في أحسن حالاتها حضورا،كيف لا وهناك سيارتان تقبعان في 

مدخل المدرسة على أهبة الإستعداد للإنطلاق.رحلة ميممة إلى الصعيد وأخرى إلى 

بورتسودان، والكل مغتبط بالسفر..حتى العم (شرة) الصول، حضر في كامل زيه 

العسكري المكوي بعناية فائقة، ووجهه كذلك الذي يبدو أنه قد عرضه للمكواه هو 

الآخر، فقد كان متهللا على غير العادة. لم ينتبه إلينا، فقد كان مشغولا بتقديم النصائح 

لمنتسبي( الكديت). وحمدنا الله على ذلك،،،آآآخ.. دائما ما يكون هنالك ما يكدر الصفو 

!،،وردنا خبر بأن ثمة عطب ب (اللوري). وأن علينا الإنتظار ساعتين على الأقل ، 

ريثما تتم معالجة اﻷمر. ساعتان !! على أية حال سننتظر ولن نتزحزح شبرا واحدا. 

فصعدنا إلى العربة، لضمان اﻹرتحال. لوحنا بأيادينا لأصدقائنا المتجهين إلى 

بورتسودان، وهم يغادرون.وبقينا نتوسد الصبر ونتلفح باﻹصرار،،،وعند الثانية ظهرا 

سمعنا هدير المحرك، فتهللت اﻷسارير واشرأبت الأعناق، وتوجهت الأبصار إلى 

الجبال. تلك المستلقية على مد البصر كهيئة السحب الركامية. فذاك جبل (قرقدة) يليه 

(أب قرن) ثم (بقيس)،،، بدأت العربة في التحرك، وبعضنا ما يزال على الأرض. 

وفجأة أوقف السائق المحرك!! تسآءلنا فأخبرنا المشرف بأنه علينا الإنتظار مرة أخرى. 

فهناك رفقة من إدارة مكافحة المخدرات لم تصل بعد. وبمعيتهم معرض ارشادي عن 

اضرار المخدرات.عند الرابعة وصلت الرفقة، كانت عربة ( بوكس) محملة باللوحات 

الارشادية، وانضم إلينا فردين من أبناء الروصيرص (معتز قيدوم و صديقه كاوو) 

صعدا إلى اللوري بعد أن رتبنا مكانا لهما ولأغراضهما.،،،عند الرابعة والنصف 

تحركنا مودعين،،،،


ما زالت المشاهد مألوفة، فها نحن على بداية طريق الكرمك..(طريق بن لادن) وهو 

عبارة عن ردمية ترابية حمراء،،،وها هو ذا جبل (قرقده) تعلوه بعض الشجيرات 

المتفرقة.لم يكن بالألق الذي كنا نراه به من الدمازين. وذاك جبل (أب قرن) ما يزال 

بجمال لونه الأزرق..وعند الجبل، بدأت الشمس بالمغيب. تبا !! لن نستطيع أن نتبين 

اﻷمكنة، فالظلام سيحول دون ذلك حتما.وغير بعيد من الجبل توقف اللوري على جانب 

الطريق. ليترجل منه ( محمد أحمد-العربي) واحد من طلاب الداخلية. ظننته نزل 

ليقضي حاجة في أول اﻷمر ولكنني رأيت (شنطة الحديد) على كتفه وقبل أن أسأل كان 

قد لفه الظلام.فأخبرني أحدهم بأنه يسكن هناك وأشار إلى حيث اللا شئ، و أهله ( من 

الرحل) وأن عليه السير مسافة ليست بالقصيرة ليصل إليهم. تحركت العربة وكان 

الظلام قد لفنا من كل جانب ولم يعد بإمكاننا رؤية شئ غير المساحة المستطيلة التي 

تحتوينا.آآآه..لابد من إيجاد بديل لضوء النهار..فلا يعقل أن يمضي بنا الطريق هكذا!!. 

فأنا وصديقي شعيرية لم يسبق لنا السفر بهذا الطريق، لذا صعدت إلى أعلى الكابينة 

حيث صندوقي الحديد، وتسلق شعيرية على السيخ إلى أن وصل أعلاه ..جلست بجانب 

(يوسف) طالب بجامعة الخرطوم كلية الاقتصاد المستوى الثالث، من أبناء الكرمك. كما 

عرف نفسه بعد أن ألقيت بالتحية. ها قد وجدت ضالتي .. فهذا الشاب سيحل المشكل. 

وعلى الفور أمطرت عليه وابلا من الأسئلة...ولم يخيب ظني أبدا ..فقد كان متحدثا لبقا 

ملما بتفاصيل المنطقة بشكل مدهش، فوفر علي إلقاء الكثير من اﻷسئلة. بدأ محدثي في 

الإجابة بعد أن سمع أسئلتي المتلاحقة، فضحك بصوت عالي وقال: أولا سبب التسمية 

(الكرمك)... فالاسم مأخوذ من جبل الكرمك. وتعني الكلمة الحجر أو الصخرة بلغة 

(البرون) وهي فرع من قبائل الفونج ذات اﻷصول الكوشية.


ضحك مرة أخرى كاشفا عن أسنان بيضاء كاللؤلؤ.وأردف،،،وتقول اﻷسطورة؛ أن فتاة 

تسلقت الجبل ذات مرة ولم تعد. وعندما اقتفى أهلها أثرها، عثروا على جثتها، وقد 

تحولت إلى صخرة فوق الجبل، فعرف المكان بتلك الصخرة. سألته عن الحرب، 

فأجاب: الكرمك يا صديقي ذات تاريخ طويل مع الحرب. ففي زمن الاستعمار تم 

احتلال الكرمك من قبل القوات الإيطالية..في المرحلة الأولى من حملة شرق إفريقيا. 

وفي العام 1987 دخلتها قوات (SPLA) واستعيدت إبان فترة الأحزاب..وفي يناير 

1932 شهدت الكرمك اجتماع مسؤولين بريطانين من حكومة السودان مع آخرين من 

الحبشة، لحل مشاكل نهب تجار الرقيق الاثيوبيين للقرى الحدودية. واسترسل..الكرمك 

متنوعة من حيث السكان على اختلاف عقائدهم..سألته عن طبيعتها وموقعها فأذهلني 

بحضوره: منطقة حصينة طبيعيا وهي ذات موقع استراتيجي، أرضها رملية تنحدر إلى 

(خور يابوس) تحيط بها الجبال في شكل قوس؛ تمتد من الناحيتين الجنوبية والغربية 

ومن الناحية الشمالية يحدها وادي (يابوس) الذي يفصلها عن بلدة (أسد دول) أو 

الكرمك الاثيوبية، وهو مجرى مائي موسمي تحفه غابات كثيفة من أشجار الجميز-

العرديب -القشطة والباباي..وتعمرها القرود و الغزلان و (جداد الوادي).كان صديقي 

شعيرية في هذه اﻷثناء قد بنى لنفسه قلعة من حكايات الصعيد، التي استمدها من شقيقه 

(عبدالله) الذي ظل يجوب الصعيد منذ أمد بعيد محملا بالبضائع إلى السافل،و بالرغم 

من أن معظم الطلاب من أبناء المنطقة إلا أنهم ظلوا متحلقين حول قصصه، و صديقي 

يبيع لهم بضاعتهم وهم يشترون.،،واصل محدثي قائلا: تقع الكرمك بالضبط جنوب 

شرق ولاية النيل اﻷزرق بأرتفاع 195 متر فوق سطح البحر.وهي متاخمة للحدود 

الاثيوبية.وتبعد عن الخرطوم حوالي 587كم ومن الدمازين حوالي 136كم. وتبعد 

99كم من (أصوصا) الاثيوبية.

سكت محدثي فجأة وانكفأ على ساعته الكاسيو ذات الضوء اﻷصفر ،محاولا معرفة 

الوقت، فرفع رأسه مستأذنا ودس يده في حقيبته الجلدية ليخرج راديو (ترانزستور) 

راح يقلب محطاته فمر علي محطة تبث أغنية لعقد الجلاد.. فصاح نفر بالجوار،،،

- عليك الله خلي لينا عقد الجلاد ديل ياااخ. فضحك وثبتها،،، فرددوا معها وقد بدأ القمر 

يمحو السواد من صفحة السماء شيئا فشيئا ،،،

خطوة،، خطوة. خطوة خطواااا مشينا

خطوة..خطوة مشينا والقمر شاهد علينا

دامنا جماعة شباب. .ما نخاف من الصعاب

رحلة الحب الجميلة ..جمعتنا بقلب واحد،،،،،

مضى بنا (اللوري) يشق ستار الليل،ويعالج منعطفات الطريق ووعورته.حتى وصل 

بنا إلى منحدر يفضي إلى (خور). وبدأ في النزول رويدا،رويدا،،كتمنا اﻷنفاس،وتشبثت 

اﻷيادي بالسيخ والتصقنا ببعضنا البعض،حتى صرنا كقطعة من اللوري.أكاد أجزم بأن 

العربة كانت تسير بشكل رأسي تماما،وكأنها تغوص في باطن اﻷرض.عادت اﻷنفاس 

لطبيعتها عند نهاية المنحدر والعربة تستوي على الأرض الرملية المنبسطة داخل 

(الخور). حمدنا الله أننا لم نفقد شئ في عملية الغوص هذه،عدا نظارة طبية سقطت من 

أحد الطلاب،،،وعند الجانب الآخر من الخور كان ينتظرنا غوص من نوع آخر،في 

غابة كثيفة من أشجار الطلح والهشاب،فأصبحنا وصديقنا صاحب النظارة المفقودة على 

حد سواء،فما عرفنا كثافة اﻷشجار إلا بكثرة الخدوش التي أحدثها الشوك في أجسادنا 

وملابسنا.حتى اللوري لم يسلم، فكنا نسمع (خربشات) باﻷطراف اختلطت ب 

(بشخشخة) الراديو الترانزستور الذي خلته يشاركنا التأوه!،،ربما هذه هي النار المرادة 

من قول "مافي حلاوة من غير نار".على كل احتملنا وخز الشوك ورهبة المكان حتى 

وجدنا أنفسنا في الهواء الطلق مرة أخرى..ولأول مرة ومنذ انطلاق الرحلة نرى ضوءا 

خلاف ضوء اللوري الذي لا يكشف سوى رقعة صغيرة من اﻷرض. فقط بالقدر الذي 

يمكن السائق من تحسس الطريق.،،،ثمة أنوار تتلأﻷ من على البعد.ياااااه ! أخيرا 

وصلنا الكرمك!،،،فضحك يوسف بطريقته تلك مصححا؛ ليس بعد يا صديقي! فما يزال 

الطريق طويلا.. فخيب ظني في هذه المرة. فقلت: وما تكون؟ فأجاب هذه البلدة تسمى 

(ساليه)،،،(سااااليه!) وعلى الفور تذكرت أصدقاء لنا وجيران فقدناهم في أعوام خلت 

بسبب الحرب.فهذا الاسم (ساليه) ارتبط في أذهاننا بمجزرة رهيبة،صورها لنا الجنود 

الناجين من رحاها،،،انتشلني من هذا الاسترسال صوت يوسف مبشرا:

-طبعا حنقيف للعشاء في ساليه،،،بالمناسبة حصل أكلت لحم (اب شوك)؟ فأجبت 

بالنفي.فأردف قائلا: نص عمرك ضائع!! لكن حتستعيدو الليلة!هههه حاجة كده 

طااااعمه،،زي لحم اﻷرانب.فأثار فضولي غير أنني لم أكن أعرف طعم اﻷرانب 

حتى!..ولكن كانت العصافير قد أعملت مناقيرها في بطني.فقلت: أهو نوع من الصيد 

البري؟ فرد ممازحا:بل هو من نوع الصيد التحت أرضي!.وراح يصف لي شكله 

وطريقة صيده؛ فهو حيوان أشبه بالقنفذ ولكنه كبير بحجم (العتوت) تقريبا.ومدجج 

بأسلحة فتاكة على ظهره؛وهي عباره عن شوك كثيف بطول سكين المطبخ،وسمك قلم 

الرصاص،يدافع به عن نفسه عند الشعور بالخطر،فيتكور ويطلق هذا الشوك كالنبال 

في كل اﻹتجاهات،لذا لا يجرؤ الصيادون على الإقتراب منه في العراء إلا نادرا مع 

أخذ الحيطة.سكت محدثي قليلا ثم ضحك وقال:صيده يتم بطريقة عجيبة،،،فالمعروف 

عن هذه المخلوقات أنها تعيش في مجموعات داخل أنفاق تحت اﻷرض،وما أن يرخي 

الليل سدوله حتى يسارع الصيادون إلى جحورها،فالجحر الواحد يتسع لأكثر من 

سبعة.ويقوم واحد من الصيادين(الصبيان) بالتطوع للنزول في الجحر،وذلك بعد أن يتم 

ربطه من الوسط بحبل متين.وما أن يصل إلى الداخل حتى يقوم بفك الحبل من 

وسطه،متحسسا الصيد بيديه،فهو لا يستطيع رؤيتها من شدة الظلام،فيختار واحدا منها 

وبهدوء يلف الحبل على عنقه ويضيق الربطة قليلا ثم يهز الحبل من أعلى لينبه إخوته 

بالخارج ليرخوا له الحبل،فيتسلق هو أولا.وما أن يخرج حتى يقوم الجميع بشد الحبل 

ليخرجوا (أب شوك). وما أن يظهر رأسه حتى يقومون بضربه حتى الموت.فيأكلون 

لحمه بعد سلخه ويبيعون شوكه الذي يستخدم في أغراض مختلفة،منها (المشاط).

- حقا طريقة غريبة!ولكن،ألم يحدث أن فتكت هذه المخلوقات بصياد ما داخل جحورها؟

-إطلاقا..لربما ظنت أن الصياد واحد من أفراد العائلة

فلا تؤذيه.

- ألا تستطيع تمييز غيرها من الرائحة؟ ضحك عاليا وقال: ربما تفعل، ولكن لعله من 

باب نبل الأخلاق وحسن الضيافة ألا تؤذي من يتواجد في حماها.. هههه..لا تتعجب يا 

صديقي فهنا كل شئ وارد، فالبعض يزعم أن (أب شوك) هذا له علاقة بالجن،والبعض 

الآخر يرى بأنه هو الجن نفسه!! ترجلنا من اللوري وضحكاتنا تحوم حول المكان وأنا 

أتوق لرؤية ذلك الجني المشوي!!...فكانت هناك سلسلة من الترابيز الصغيرة، 

مرصوصة بجانبي الطريق. عليها قدور معلق فوقها فوانيس ذات ضوء باهت يتلاعب 

بها الهواء فرحت أنظر في الشواء و أسأل عن (أب شوك) وأصحاب القدور يضحكون 

مني.

تحلقنا حول مائدة صغيرة،عليها صحن كبير من اﻷلمنيوم يحمل في جوفه القليل من 

شطة(القبانيت)الحاااارة.في انتظار الطعام،وفمي محشو بقطعة كبيرة من لحم اب شوك!!

هه لم أكن ﻷنتظرحتى يؤتى بالطعام،فقد أنشأت صحبة جميلة مع صاحب المطعم فور 

وصولنا، فطفقت أكرر له ما سمعته من صديقي عن اب شوك،وهو يضحك..لم أقدم له 

معلومة جديدة! ورغم ذلك مد إلي(كمشة)بها ثلاث قطع كبيرة من اللحم! وما تزال 

الإبتسامة تكسو وجهه..لعله رأى لعابي يسيل وأنا أتحدث إليه.وضعت الصينية في 

الوسط ولاشئ يسمع سوى المضغ..فاللحم شهي! وأظنه يفوق لحم اﻷرانب التي لم 

أتذوقها من قبل!..ظل لساني يعمل كفرشاة النقاش على جدار فمي..حتى وصلنا إلى 

الكرمك،بل حتى لحظة الكتابة هذي.فذات مرة قال صديق لي "طعم اب شوك لا يرى 

إلا باللسان"..وصلنا الكرمك حوالي التاسعة مساء ولم نكد نرى غير صخور سوداء 

زادت من حلكة الليل..حللنا المدرسة الثانوية التي تقبع في مكان مرتفع عند مدخل 

البلدة،يقابلها ميز المعلمين على سفح الجبل،فكنت أول النائمين،ﻷكون أولهم إستيقاظا 

في الصباح.كعادتي،كنت أحب استكشاف المكان واﻹحتفاء به بطريقتي.أخرجت 

ورق(الكانسون)وشريط لاصق -فرش وألوان (الريفز) وأيقظت 

الفيل،وخرجنا،،،،ياااااااه أين كان يختفي كل هذا الجمال؟!! فكل شئ يستحق الرسم! 

اخترت موقعا للجلوس ولم أحدد موضوعا للرسم. قررت وصديقي الفيل أن نترك 

أغراضنا ونجوب البلدة أولا،،،،معظم البيوت مبنية من الحجر والقش وقليل من الطوب 

والخشب،تعرشها أشجار ضخمة.فهي مزيج من الدمازين والروصيرص.اﻷبواب من 

الحديد والخشب بها الكثير من الثقوب بسبب الحرب!!،،،فما تزال آثآرها باقية،،،،ها 

نحن قد وصلنا إلى عمق البلدة،،،فبرز عمقا آخر في لوحاتنا حينما رجعنا إلى المدرسة 

حيث إلتف حولها الطلاب مندهشين:

- الكلام ده عملتوهو متين؟! نحنا أولاد البلد ما حصل شفنا الحاجات دي!!

تناولنا شاي الصباح والفطور جملة واحدة،ثم انطلقنا إلى المدرسة الابتدائية،شعيرية 

الفيل وأنا يتقدمنا معتز (إربا) شاب نشط من أبناء المنطقة،،،استقبلنا مدير المدرسة 


بحفاوة بالغة،وعلى الفور بدأنا في رسم خطة عمل،،،ثلاثة أيام متتاليات وكانت 

المدرسة ترفل في ثوب قشيب،تلاها النادي.ونحن لم نكتشف المنطقة بعد! ومنذ اشراقة 

شمس اليوم الرابع صافحتنا وجوه وضاءة من داخل البيوت،لا يعلوها شئ غير 

الإبتسامة.أشرعوا لنا قلوبهم،وأفسحوا لنا في المجالس أرخوا لنا سمعهم و ألانوا لنا 

الحديث. أشبعوا حاجاتنا للكم والكيف من الطعام والشراب!! أبعد هذا شئ؟،،،استحت 

عبارات الشكر منهم. وفي طريق عودتنا إلى الداخلية قابلنا أستاذ التاريخ (دانتي) الذي 

لم أرى موهوبا مثله قط في مادته.وقفنا معه هنيهة..أعلمنا بأنه انتقل للتدريس هنا منذ 

عامين..- البلد دي بتنفع مع الفنانين الزيكم!،،بالمناسبة قطعتوا الخور وللا لسه؟ فأجاب 

أحد الرفاق: - بنقطعه بكره..لازم نلففهم البلد دي كووولها.

- بس أعملوا حسابكم في ألغام قديمة،،،دايما أمشوا بالدروب المطروقة.استأذنا 

منصرفين،،،وفي الطريق حدثنا معتز إربا عن ما وراء الخور،فكدت أرجع لولا تأخر 

الوقت!..بت أتقلب على وخز الشوق في تلك الليلة متدثرا بأحلام راااائعة،،،أمسكت 

بأول خيط من أشعة الشمس متسللا من المدرسة،وأنا في كامل هندامي،فمعظم الطلاب 

نيام.

- بسم الله!،،،على وين يا زول؟ قالها (إربا) وهو يتمطى في سريره.

- ح أقطع الخور!!

- يا زول إنت قايل المسألة دي ساااهلة كده!! أول شئ لازم تاخد تصريح من الجهات 

الرسمية..انت ح تمشي بلد تاني!،قطعت الخور يعني دخلت أثيوبيا.ثانيا انتظر نمشي 

كلنا سوا.أزعنت لرأيه وأسرعت ﻷوقظ البقية،،،،

عند التاسعة صباحا،كنا متوجهون إلى حيث إجراء الموافقة لنا لعبور (الخور) يتقدمنا 

قيدوم وكاوو،وذلك لتسهيل اﻷمر،باعتبار أنهما يمثلان جهة رسمية أيضا،يتوسطهم 

شعيرية،،،،ها نحن عند المكتب المعني بتصاريح الزيارة.دخل قيدوم وكاوو وبقينا في 

الخارج،ما هي إلا لحظات حتى خرجا والتصريح بيد قيدوم الذي أوضح أنهم لم 

يسمحوا بغير ساعتين فقط! فقال شعيرية محتجا: 

- نحن زايرين لينا مستشفى؟!! كدي الورقة دي،،،انتظروني هنا دقائق.وبالفعل أنجز ما 

لم يستطع فعله أهله،فدقائق شعيرية أضافت لنا ست ساعات أخر.فأصبح معنا ثماني 

ساعات.لم أكن أشغل تفكيري أبدا بما سوف يفعله صديقي، فثقتي في حنكته كبيرة 

جدا،والنتائج دوما مرضية.

- يا جماعة الزول ده ما قصر معانا،عشان كده ما تقصروا رقبتي قدامو،،،أنا وعدته، 

الساعة خمسة شوووكة نكون هنا.

إتفقنا ومضينا سويا،تتقافز أمامنا قلوب بكر تغدو صوب الجمال،،،،،

قلوبنا فقط التي عبرت (الخور) فطربت وانتشت بروعة سحر المكان..و عند المغيب 

رجعت الأجساد منا،و بقيت هي تتنشق نكهة أثيوبية خالصة.رجعنا بأجساد منهكة 

نتحسس خطانا على طريق حرج!!! كما وصفه صديق: "طريق لزج و مرنح".

عند وصولنا نقطة التفتيش الحدودية كانت الشمس قد رحلت تماما.أخذت أراقب شعيرية 

فإذا برقبته تقصر شيئا فشيئا،بفعل التأخير،لم يوقفها من ذلك سوى صياح الجندي:

- ثااااابت عندك مييييين!؟ وقفنا مكاننا وقلنا بصوت واحد: آمييييين،ومد إليه قيدوم 

التصريح.فأشعل مصباحه وأخذ يتفحصه ثم رفعه إلينا قائلا في لهجة متوعدة:

- انتوا متأخرين ساعتين! ثم راح يتطلع إلى وجوهنا واحدا بعد الآخر تحت ضوء 

مصباحه،كاد يفسد علينا ما اجتهدنا في تعبئته منذ الصباح لولا أن ثبت الضوء على 

وجه أحدنا وصاح متهللا: شعيرية!!! 

كان العسكري زميل دراسة في المتوسطة فأخذ يصافحنا جميعا،بل أخذنا إلى خيمتهم، 

حيث وجدنا أصدقاء لنا افتقدناهم منذ زمن.أول شئ فعله صديقنا أن مزق التصريح 

ومزق معه كل ما اعترانا من مخاوف.احتسينا القهوة معهم...شكرناهم 

وانصرفنا،،،رمقت شعيرية فإذا برقبته تزداد طولا!! لم يكتف بذلك،بل زاد:

- بعد كده ما ح نطلع تصريح ذاتو!!.فكدت ارجع للمبيت هناك!.عاودنا الكرة في اليوم 

التالي،،،وعند عودتنا،سألني أحد الطلاب بخبث،والذي كان متزمتا،فهولم يرافقنا إطلاقا:

- انتو عندكم شنو بهناك؟ فأجبته دون أن أكترث: - بنشتري صابون.

- صابون! ثلاثة أيام؟ ثم أردف مبتسما ببلاهة:

- أنا شوفت لوحتك الرسمتها على الجدار.وعليها توقيعك كمان!!!

أوقع نفسه بغباء نادر.فاللوحة التي يعنيها (بورتريه) يخص (ألآ منش) واحدة من أجمل 

من رأيتهن هناك!لم أقو على تحمل ذلك وحدي فشاركني البوح،الجدار وفحم الوقود، 

فترجمنا ذاك الجمال فنا أصيلا.

والحق أن ذلك الجدار لا يمكن أن يصل إليه مخلوق إلا من خلال سرداب لزج!!

فأجبته بتهكم:

- لابد أنك ذهبت في حملة تطهيرية!! أرجو أنك لم تحطم ذلك الجمال!!؟

أمضينا جل ليلة ذاك اليوم في ترتيبات حفل الختام التي امتدت حتى اليوم 

التالي.شاركت وصديقي في كل شئ ماعدا كرة القدم وتسلق الجبل لإنزال العلم من 

قمته احتفالا بأعياد اﻹستقلال.وبالطبع لم ننس دعوة (ألآ منش) وصديقاتها،،، وفي 

طريق عودتنا نزولا (للخور)،تسمرنا في مكاننا لسماعنا دويا هائلا من بين أشجار 

كثيفة،وعند نهاية الخور خبرونا أنه لغم أرضي مزق غزالة،وأن هذا اﻷمر كثيرا ما 

يحدث.فما تزال الحرب تحصد الأرواح.كان يوما مزدحما باﻷحداث.فكأنما اختزلت كل 

أحداث السنة في ذلك اليوم.مباراة بين المنتخب السوداني و المنتخب اﻷثيوبي،تخللتها 

ألعاب ورقصات شعبية،،،أمسية صااااخبة،مسرح ومعرض مصاحب،ليلة ممتده لم 

يوقف زحفها إلا ثعبانا أخرق،تسلل وسط الجمهور فأحدث هرجا كبيرا. قضى عليه 

صديقنا الفيل بطريقة عجيبة في نهاية اﻷمر. انصرفنا بعدها ولم يغمض لنا جفن حتى 

الفجر،،،فظللنا نطوف أرجاء البلدة مودعين، فالسفر صباحا.

و باكرا تحرك اللوري مغادرا إلى الدمازين والكل مودع،إلا أنا وصديقي شعيرية فقد 

علمنا أن هنالك مقعدين شاغرين بسيارة لليونسيف،ستنطلق ليلا فآثرنا البقاء لعلنا 

نرتوي من سحر الصعيد الآسر.


إيهاب شبو 29-11-2013م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فن الحرق على الخشب

دلالة الألوان في الحياة البجاوية

الجرتق