مقطورة.. بلا قطار !!
ما أن وضعت قدمي اليمنى على أول درج من سلم عربة القطار،الذي ما بقيت منه إلا
هذه (المقطورة) المتهالكة. القابعة في وسط محطة السكة حديد ..الخرطوم.. حتى سرت
رويدا ... هي ذاتها من تعيد ترتيبي وتشكيلي من جديد... و دائما ما كنت أذعن
مستسلما لهذا الأمر المعتاد... ليقيني التام بأنها ليست سوى لحظات من الفوضى
تعقبهارحلة ممتعة وشيقة... هالات من الألوان... أحمر .. أصفر .. أخضر ..تلوح أمام
ناظري ..تنضم إليها ألوان أخرى .. تتحلق جميعها حول بقعة سوداء. بأيد متشابكة تبدأ
الرقص على إيقاعات مختلفة ..المردوم ..الدليب .. التمتم .. الشتم .. الدلوكة .. تداخلت
فبدت كإيقاع واحد مغري للرقص .. كلما ارتفع صوت الإيقاع ضاقت الحلقة بالرقص..
تمتزج الألوان جميعها .. فتصير خيطا أبيضا رفيعا.. ما يلبث أن يستحيل هو الآخر
إلى حلقة رمادية تتوسطها أنفاسي اللاهثة ....رفعت قدمي اليسرى إلى درج السلم
الثاني تسابقها اليمنى .... وتسبقهما أذناي:
- أها ... جبت لينا شنو الليلة يا راجل؟
- القفة ملياااااااانة ... الأولاد وينهم؟
- أجي يا أخواني .. ما في المدرسة! ..اتذكرت جبت معاك شاي حب؟
- آآي .. كدي قومي أعملي لينا حاجة نأكلها...
يااااااااااه......هذا مقطع من تمثيلية كنا نقوم بأدائها يوميا دون كلل أو ملل على
مقطورة كهذه... في حي السكة حديد الدمازين...
نقوم بأدوار الكبار غير عابئين بتسلسل للأحداث أو توزيع للأدوار .. هكذا كل يختار
الدور الذي يريد .. وربما اختار إثنان دور واحد .. أو واحد يقوم بلعب دورين .. لا
حرج في أن يقوم بدور الأم صبي،والصبية تقوم بدور الأب واﻷبناء قد يكونون اﻷكبر
سنا.. لم يكن هنالك سيناريو معد على اﻹطلاق... فقط يكون إبن لحظته.
جزء منه منقول مما يدور في البيوت من حديث..ونزينه بخيالنا الخصب..... اﻷثاث
عبارة عن علب صلصة فارغة مرصوصة بعناية فوق عيدان نبات (الكول) اليابسة
وبداخل كل علبة طبيخ مختلف ..... بامية ... قرع .... أسود ... خدرة... بامبي ..
بطاطس.. وكل صنف نجلب له شكلا يشبهه .. أوراق شجر...حبات حصى ملونة ..
طين....فأعواد الثقاب ..ملاعق ..صناديقها دواليب ذات أدراج أغطية علب لبن
(فورموست وكاني) الصواني .. أغطية المشروبات الغازية .. الصحون.ذاك هو
المطبخ تشاركه غرفة المعيشة والديوان نفس المكان،الطوب الأحمر..الأسرة. خرق
القماش البالية..الملايات ومفارش الترابيز والستائر في بعض اﻷحيان. كان اختيارنا
للمقطورة موفقا.. وكذلك التوقيت..فالمكان بعيدا عن البيوت. والزمان وقت القيلولة
حيث تكف أعين الكبار عن ملاحقتنا.فبعد أن نضع عن أكتافنا الصغيرة أعباء المدرسة
نكافئ أنفسنا بالتسلل واحدا تلو الآخر إلى حيث اللا قيود لممارسة طقسنا المميز على
غير ما اتفاق معلن...
- يااااااازول!.. ياااااااأخينا هوي!
لا زلت على السلم أقف عند مدخل
المقطورة متشبثا بمقابض نحاسية على طرفي الباب ....
- يا زووووووول انت ما نصيح! البوقفك جنس الوقفة دي شنو في الحر دا؟
بدأ الخيط اﻷبيض يتموج ثم يتقطع ليتحول إلى حلقات صغيرة ملونة...
خضراء..صفراء..حمراء...أخذت في الظهور شيئا فشيئا...خفتت أصوات الصبية..لم
أعد أسمع سوى إيقاعات غيرمنتظمة بعيدة ..
- يازول انت.....
ومن وراء هالات متراقصة لاح لي شبح شرطي يلوح بيديه في الهواء مبتعدا وهو
يغمغم بكلام غير مفهوم .....ومضيت أنا في الإتجاه الآخر مغمغمابكلام مفهوم ...(
ربما كانت هي المقطورة ذاتها).
إيهاب شبو 25-نوفمبر-2013
تعليقات
إرسال تعليق