الطريقة ال(جنقرية) لصيد العصافير





كان كل ما يتقنة صديقنا (عبدالله جنقر) في هذه الحياة هو صيد العصافير! ... فقد كان 

بارعا في هذا اﻷمر ..وكانت له طريقتة الخاصة في ذلك..لا يضاهيه إلا (حمزة) الذي 

يصغرنا بعامين. وربما هما كذلك ﻷنهما يتبعان نفس الطريقة الخاصة في الصيد.ولكن 

ما يميز عبد الله أنه لا يدع النبلة لتفارق خاصرته أبدا،إلا في طابور الصباح والذي 



عادة ما يأتيه متأخرا...هسسس ! ها هو ذا قادم نحونا.بإمكاننا رؤيته بسهوله، إذ لم يكن 

للمدرسة سور يقيها من أعين المارة..على أية حال لم يكن السور مهما يوما... فالمارة 

ليسو بغرباء...هذا هو عم (عبدالعاطي) متجها إلى حي الربيع حيث دكانه.. وذاك هو 

(حاج الطاهر) يدير محرك سيارته الكورولا (تاكسي)... فبيته على مرمى حجر من 

المدرسة...وبالقرب منه يخرج يوسف كباشي (بوليس المحطة) من بيته... حتى الرجل 

الأسطورة الذي لم نكن نعرف له أصل ولا اسم ونعرفه فقط باسم (فرنسا) لم يكن 

غريبا... وها هو صديقنا (جنقر)، يزج بنبلته داخل (الرداء) الكاكي المنتفخ، قبل أن 

يسدل عليه قميصا يشبه (العراقي) يوما ما كان أبيضا!.. كثيرا ما نشاهده يقوم بهذه 

التحوطات قبل أن يعتلي كبري (الفلنكة) المؤدي إلى ساحة الطابور مباشرة .. وكثيرا 

ما يقع في قبضة اﻷستاذ.. الكل يراقب هذا المشهد المتكرر عدا الأستاذ(جدو) الذي كان 

يتوسط الطابور بقامته الفارعة ونظارته المحكمة على عينيه وصوته الجهوري، يملي 

علينا لوائح المدرسة وسوطه مدلى من عل.. أنظارنا تتنقل ما بين السوط المدلى وذاك 

القادم المتخفي..قام (جنقر) بدس جسده النحيل بين تلاميذ الصف ملتصقا بزميل له حتى 

باتا كأنهما شخص واحد.

- عبدالله..امرق تعال هنا!

جلجل صوت أستاذ (جدو) دون أن يلتفت إليه...عجبا !..كيف عرف بمقدمه !

كان أستاذ (جدو) هذا يدهشنا حقا في أمور كهذي. فذهبنا إلى أن له عفريتا يخبره 

بأحوالنا كل حين..يخبره بمن ذهب إلى السينما و قت المذاكرة..ومن استحم في 

الترعة..ومن لعب البللي وقت الدرس..وبمن توعك في منتصف الليل..و من لم ينم في 

بيته.. ومن أغضب أمه ولم يتناول شاي الصباح.. ومن أفزع خفير المحطة وقت 

القيلولة..ومن اصطاد عصفورا من جنينة المفتش !.. كنا في المدرسة لا نفكر في 

الأشياء التي تستوجب العقاب اطلاقا، خشية أن يطلع عليها ذلك (العفريت) فيشي بنا.. 

لم نكن ندرك وقتها أن هذه الملاحقة هي من صميم عمله كمعلم و مربي، فلا تفوت 

عليه فائتة...جرجر (عبدالله) قدميه بتثاقل متحسسا مخبأه بكفيه الصغيرين..وما أن 

وصل إلي حيث العقاب الوشيك. حتى امتدت إليه يد الأستاذ التي تكاد أن تكون في 

حجم رأسه تماما، محركا أصابعه بطريقة يعرفها عبد الله جيدا..وسرعان ما يرفع 

الآخير قميصه حتى يغيب وجهه، فبدت ضلوعه بارزة حتى تكاد تعدها، كتلك التي في 

كتاب العلوم.. تحسس الأستاذ جنبيه فلم يعثر على شئ فأنزل (جنقر) قميصه من على 

وجهه فاردا ذراعيه في الهواء معلنا خلوه من أية شبهه. لم يكتفي الأستاذ بذلك... إلتفت 

إلى حيث يقف تلاميذ الصف السادس. وعلى الفور هرع أطول أربعة تلاميذ منهم 

يفهمون تماما ما المطلوب منهم....أمسك أربعتهم بأطرافه.. رفعوه 

عاليا..طاااخ..واحد..طاااااخ إثنين...

- لابس كم رداء ؟

- و..و..واحد بس!

-فتشوه!

حمله أربعتهم إلى مكتب صغير مصنوع من خشب (الفلنكة)، سقفه من القش. مكتوب 

على بابه (ضابط المدرسة). دقائق معدودات ويخرجون يتقدمهم صديقنا، وعلى كتفه 

ثلاثة (أردية) غير الذي يلبسه.

- وين النبلة؟

- ممما ..ما لقيناها!

فيأمر الأستاذ بإجراء تفتيش دقيق لجميع تلاميذ رابعة.. تساقطت الكراسات والكتب 

والأقلام وجميع محتويات (شنط الدمورية) على الأرض... رفعت القمصان..أنزلت 

اﻷردية. حتى الأحذية لم تنجو. ومع ذلك دون جدوى.. وجمنا .. صمت مهيب.. ترى 

أين خبأ هذا ال (جنقر) النبلة؟ فظن بعضنا أن تلاميذ الصف السادس متواطؤن معه 

ربما نظير عصفورة أو إثنتين...واستبعد البعض الآخر هذه الفكرة..لأن لا أحد يجرؤ 

على اللعب بالنار مع أستاذ (جدو) في هكذا أمر وإلا.... فرجحوا أن ل (جنقر) هذا 

عفريتا أيضا كالذي يعمل لصالح الأستاذ. يوقف هذا المد (الميتافيزيقي) صوت الأستاذ 

بعبارته المشهورة : - الليلة ح أخلي ريحتك طير-طير! نظرا لتأخيرك!... شدوهو.... 

يتأرجح جسمه النحيل في الهواء وتتأرجح معه ابتسامة منتصرة... واحد..إثنان...عشرة 

ويترجل صديقنا وابتسامته تتحدى الدموع المنثالة على وجهه... وفي نهاية اليوم 

الدراسي والتلاميذ هنا وهناك إلتصقنا ب (جنقر) ونحن نعبر الكبري فابتدره أحدنا - 

لكن والله.. الليلة كيفتنا ياخ!!!. وقال ثان -لكن انت وديتها وين؟ ..نحنا شايفينك لمن 

دسيتها! فأشار بيده إلى أسفل الكبري... وحكى...فقد أوهم الجميع بأنها مخبأه داخل 

الرداء ولكنه ما أن صعد الكبري حتى بدأ يهزهز رداءه لتسقط من خلال الأخشاب 

المرصوصة إلى أسفل الكبري حيث يبتلعها القش الكثيف..يا لك من ماكر!! أهذا كل ما 

في الأمر؟.. ضحك وهو يقفز إلى الخور ليجد النبلة مازالت في انتظاره.. يلتقطها 

ونمضي..قبل أن نصل محطة السكة الحديد ،أحصينا في جيبه ثلاثة عصافير ميتة و 

في يده(ودأبرق) ينازع.. ألم أقل لكم أن له طريقته الخاصة في الصيد!..فما أن يرى 

عصفورا حاطا على غصن، أو عمود كهرباء حتى تتقلص عضلات وجهه فيشد 

(سيور)النبلة حتى يحازي بالحجر أذنه اليمنى لتتسع إحدى عينيه وتضيق اﻷخرى.

وقبل أن ينطلق الحجر من مكمنه بثانية واحدة يتجلى فعله السحري... يمرر ظاهر كفه 

الأيمن ما بين أرنبة أنفه وشفته العلوية مزيلا خيطا لزجا بدأ في النزول.. فيسحبه 

بصوت مسموع.. سنيييييييييف ! فيسقط العصفور صريعا.هكذا فقط!

كنا نعتبر (عبدالله جنقر) مثلنا الأعلى... فقط في صيد العصافير! لا يتعداه إلى 

سواه...فما أن يهم أحدنا بصيد عصفور ما.. ما عليه إلا أن يستجلب سائلا لزجا صيفا 

كان أم شتاء أو خريفا وإن كان مسببه غائبا..لا يعنينا هذا كثيرا.. فلا بد من اسقاط 

عصفور ما... وكثيرا ما تسقط العصافير إثر هذا السلوك العجيب!.. على أية حال 

اتخذناه (سبرا) ومضينا نحصد به مزيدا من العصافير، ولا ندري أهي ثقة أكسبنا أياها 

(جنقر) بطريقته تلك؟،أم أن العصافير باتت تستسلم لمصيرها المحتوم عند سماعها 

لهذه ال...... سنيييييييييف ؟ 

تمت..
إيهاب شبو 23-نوفمير-2013

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فن الحرق على الخشب

دلالة الألوان في الحياة البجاوية

الجرتق